بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ان السنة الثانية من سلك الباكلوريا هي سنة إبداع بالنسبة للتلميذ في مادة الفلسفة؛ ويتجلى هذا الإبداع في اكتسابه السابق لمجموعة من المهارات الفكرية والقدرات العقلية التي تمكنه من كتابة إنشائية تتوفر على المواصفات والشروط المطلوبة.
إن التلميذ مطالب في هذه السنة بالكتابة المقالية، التي يشتغل من خلالها على تحليل نص فلسفي ومناقشته، أو قولة مرفقة بسؤال يستدعي في الغالب استخراج أطروحتها ومناقشتها، أو الإجابة عن سؤال فلسفي مباشر، والإجابة تتطلب في جميع الأحوال كتابة موضوع إنشائي يجسد فيه التلميذ مجموعة من المهارات سواء اللغوية أو المنهجية أو المعرفية.
انطلاقا من هنا، ومما خبرناه في تجربتنا المباشرة مع التلاميذ، فإننا نلمس فعليا وبشكل واضح معاناة حقيقة للغالبية العظمى من التلاميذ مع الكتابة الإنشائية الفلسفية؛ إذ تعوزهم القدرات والمهارات التي تستدعيها هذه الكتابة كتجسيد لممارسة عقلية إبداعية.
1- الأخطاء اللغوية/الأسلوبية:
بالنسبة لهذا النوع من الأخطاء سجلت في أوراق التلاميذ التي صححتها الأخطاء التالية:
- غياب النقط والفواصل؛ فمعظم التلاميذ لا يستخدمون الفواصل أثناء الكتابة، وإن استخدموا النقط فهم يضعون نقطة بعد كتابة أربعة أسطر أو أكثر!!
- الركاكة أو عدم التعبير بدقة عن الأفكار؛ وهذا مؤشر في نظري على ضعف الرصيد اللغوي لدى التلميذ، والناتج بدوره عن قلة أو انعدام المطالعة.
- وجود الأخطاء النحوية والتركيبية؛ وهي مسألة ترجع أيضا إلى ضعف رصيد القراءة لدى التلميذ.
- عدم وضوح الخط؛ وهي ملاحظة تنطبق على بعض الأوراق التي لا يتمكن المصحح من قراءة جملها وكلماتها، فكيف به أن يستوعب ما تحمله من مضامين وأفكار. والنتيجة هي نقطة سلبية تمنح للتلميذ.
2-أخطاء تتعلق بالتمهيد:
- التمهيد غير المناسب؛ فمن المعروف أن الكتابة الإنشائية الفلسفية المتعلقة بتحليل النص ومناقشته، تبدأ بتمهيد يكون الغرض منه هو التأسيس لطرح الإشكال المتضمن في النص.
لذلك يجب أن يراعي التلميذ أن يكون هذا التمهيد مستمدا من النص، أو على الأقل مناسبا لموضوعه، ويؤدي الوظيفة المتوخاة منه؛ وهي إعطاء مبررات لصياغة الإشكال الكامن في النص.
لكن، وللأسف، فكثير من التلاميذ يكتبون أشكالا من التمهيد تكون جاهزة، ولا توجد بينها وبين الصياغة الإشكالية روابط قوية ومتماسكة.
- كما نشير هنا إلى بعض أنواع التمهيد الطويلة، والتي قد يفوق طولها أحيانا طول التحليل والمناقشة ( العرض) نفسه! وهي أنواع من التمهيد غالبا ما تتضمن أفكارا ومعلومات هي مجرد حشو زائد لا علاقة عضوية تجمعه بالطرح الإشكالي.
3-أخطاء تتعلق بالإشكال:
ويمكن أن نشير هنا إلى مايلي:
- غياب الربط بين التمهيد والإشكال؛ وهو ما أشرنا إليه سابقا.
- إسقاط إشكالات وتساؤلات على النص من الخارج. وهذا غير مقبول؛ إذ يجب أن يكون الإشكال مستمدا من داخل النص، ومعبرا بصدق عن الإشكال الحقيقي الكامن فيه.
- غياب الطرح الإشكالي أحيانا؛ إذ وجدت بعض الأوراق –وهي قليلة على أية حال- لا يطرح أصحابها إشكال النص، بل يكتفون بتقديم عام يعقبه عرض لمواقف الفلاسفة!
- غياب الدقة في طرح الإشكال؛ إذ غالبا ما يطرح التلميذ إشكالات زائفة أو خاطئة لا يستدعيها النص، ولا تعبر عن جوهر الطرح الإشكالي الثاوي فيه.
4- أخطاء تتعلق بالتحليل:
ويمكن أن نسجل مايلي:
- غياب التحليل نهائيا؛ إذ وجدت أن بعض مواضيع التلاميذ يغيب فيها تحليل النص نهائيا، أي أن التلميذ يكتفي هنا بطرح الإشكال وتقديم مواقف الفلاسفة، دون أن يكلف نفسه عناء الاشتغال على النص. وهذا من الأخطاء المنهجية الخطيرة.
- اقتصار التحليل على مجرد تكرار عبارات النص؛ حيث وجدت بعض التلاميذ لا يمتلكون المهارات اللغوية والقدرات العقلية على تفكيك عبارات النص والبحث عن دلالاتها العميقة، والتعبير عن كل ذلك بأسلوب لغوي خاص، فيكتفون بمجرد تكرار عبارات النص ونقلها حرفيا وكأنهم مجرد آلات كاتبة، وليسوا كائنات عاقلة ومبدعة!
- عدم إغناء النص بمعلومات وأمثلة من رصيد التلميذ؛ فيتم الاقتصار على مجرد الشرح اللغوي والمقتضب لجمل النص وفقراته.
فالمطلوب من التلميذ هو الغوص و التوسع في تقديم دلالات العبارات الواردة في النص، وما تحتمله من معاني ممكنة، وتوضيح ذلك من خلال معارف فلسفية أو غير فلسفية مستمدة من المعيش اليومي للتلميذ.
- الفهم الخاطئ لعبارات النص؛ وهذا ناتج في نظري عن قلة احتكاك التلميذ بالنصوص الفلسفية وعدم تمرسه على تحليلها؛ مما يجعله لا ينتبه عادة إلى كلمات النص، والتركيب الذي جاءت وفقه، والمعنى الذي تستهدفه، فيحملها معاني خاطئة غير تلك الكامنة فيها على وجه الدقة.
- غياب المستويين الحجاجي والمفاهيمي في تحليل النص؛ إذ يقتصر بعض التلاميذ على مجرد عرض أفكار النص بشكل مختصر دون توضيح الأساليب الحجاجية (مثال، مقارنة، استشهاد، تشبيه...) التي استخدمها الفيلسوف إما لإثبات أطروحته أو دحض أطروحات أخرى.
كما لا يعرف التلاميذ بالمفاهيم الأساسية في النص وتحديد العلاقات الموجودة بينها، وهو ما يساعد على ضبط تمفصلات النص والكشف عن أطروحته الحقيقية.
5- أخطاء تتعلق بالمناقشة:
ويمكن أن نشير هنا إلى ما يلي:
- غياب الربط بين التحليل والمناقشة؛ إذ من المفترض بعد الانتهاء من تحليل النص واستخلاص أطروحته النهائية أن يطرح التلميذ تساؤلا حول هذه الأطروحة لنقدها وتبيان حدودها، من أجل التمهيد لمناقشتها لاحقا. لكن للأسف كثير من التلاميذ ينتقلون من لحظة التحليل إلى لحظة المناقشة دون أي رابط يذكر.
- غياب المناقشة الداخلية؛ إذ يستحسن أن تتضمن المناقشة مستويين؛ مستوى المناقشة الداخلية التي يقوم التلميذ خلالها بإبراز مدى قوة أفكار النص وتماسك حججه، أو إبراز العكس؛ أي ضعف هذه الأفكار و عدم تماسك الحجج المدعمة لها. ثم يأتي بعد ذلك إلى مستوى المناقشة الخارجية التي يعرض فيها مواقف فلسفية متنوعة إما مؤيدة للنص أو معارضة له أو مكملة لموقفه. لكن الملاحظ هو أن التلميذ يكتفي بالمناقشة الخارجية دون الداخلية، لأن الأولى يستدعي فيها ذاكرته فقط بينما يغيب الثانية لأنها تتطلب منه قدرات عقلية في فهم النص والدخول في سجال معه. ولا شك أن الدخول في مثل هذا السجال مع النص هو تعبير عن لحظة تفلسف وإبداع عقلي لا يقوى عليها إلا التلاميذ النجباء.
- غياب المناقشة نهائيا؛ وهذا خطأ نادر بطبيعة الحال، إذ اكتفى بعض التلاميذ –وهم قلة- بالوقوف عند مستوى تحليل النص دون مناقشته. ولعل هذا راجع إلى الخواء المعرفي لدى التلميذ.
- عدم ربط مواقف الفلاسفة بالنص؛ إذ يكتفي كثير من التلاميذ بعرض مواقف الفلاسفة كما التقطتها ذاكرة التلميذ من الدرس، دون إدخالها في حوار مباشر وحقيقي مع أفكار النص وأطروحته. وهذا يؤدي إلى وجود هوة أو فجوة واضحة بين لحظة التحليل ولحظة المناقشة، وكأننا أمام موضوعين منفصلين!
- عدم التوسع في عرض مواقف الفلاسفة؛ إذ يكتفي التلميذ هنا بتقديم أطروحة الفيلسوف في سطرين أحيانا دون أن يقدم بعض التفاصيل والجزئيات التي تستدعيها هذه الأطروحة وترتبط بها. والنتيجة هي أن موضوع التلميذ يأتي ضعيفا وشحيحا من الناحية المعرفية.
- غياب الربط بين الفلاسفة أثناء المناقشة؛ حيث يقدم كل فيلسوف معزولا عن الآخر، ولا نجد أي حوار بينهما.
- غياب مواقف فلسفية متعارضة في المناقشة؛ حيث يكتفي بعض التلاميذ بعرض موقف أو مواقف فلسفية مدعمة لأطروحة النص، ويتم بالمقابل تغييب المواقف الفلسفية المعارضة لها. وهذا لا يتناسب مع طبيعة التفكير الفلسفي الذي يقوم على الاختلاف في الرأي، وتقديم مقاربات متعددة بصدد الإشكال قيد المعالجة.
- الحشو؛ وهو تقديم بعض المعارف الفلسفية التي لا تخدم مناقشتنا للنص، مادامت تبتعد عن جوهر الإشكال المطروح فيه. وحتى ولو كانت تلك المعارف صحيحة، لكن تظل مع ذلك بدون قيمة إذا لم تكن تتمحور حول الإشكال الذي تمت معالجته في الموضوع.
6- أخطاء تتعلق بالخاتمة:
يمكن أن نذكر هنا مايلي:
- غياب الخلاصة التركيبية؛ هناك بعض المواضيع من ضمن الأوراق التي صححتها، لا نجد فيها أية خلاصة تركيبية؛ إذ يقف التلميذ عند حدود الانتهاء من المناقشة دون أن يعرض النتائج والخلاصات التي انتهى إليها الموضوع!
- الخلاصة الجاهزة وغير المتناسبة مع ما تم عرضه في التحليل والمناقشة؛ حيث وجدت أن بعض التلاميذ يأتون بخلاصات جاهزة يحفظونها عن ظهر قلب، ويزجون بها في الموضوع زجا. وهذا غير مقبول بتاتا؛ إذ أن المطلوب هو أن تكون الخلاصة تركيبا لما سبق، ومتناسبة مع ما تم تقديمه في العرض، وأنها مرآة تعكس نتائجه الحقيقة.
- تضمن الخلاصة لنتيجة لم يتم الدفاع عنها والانتصار لها في لحظة العرض؛ وأقصد أن التلميذ يعالج الإشكال انطلاقا من تحليله للنص، ثم يقدم بشكل محايد موقفين فلسفيين متعارضين؛ أحدهما مؤيد للنص والآخر معارض له، ثم يأتي في الخلاصة النهائية ويعلن انتصار أحد الموقفين الفلسفيين. وهذا غير مقبول في نظري؛ إلا إذا قدم التلميذ مبررات أثناء العرض توضح انتصاره لهذا الموقف الفلسفي دون ذاك، مع تدعيم ذلك بحجج وأدلة. وقد يكون هذا الانتصار لصالح النص ومؤيديه أو لصالح معارضيه. في هذه الحالة الأخيرة فقط، يمكن للخلاصة أن تكون تعبيرا عن الأطروحة التي دافع عنها التلميذ وانحاز للفلاسفة الذين عبروا عنها.
أما إذا كان التلميذ محايدا، لا يدافع عن النص ولا عن معارضيه، فإن عليه أن يعبر في لحظة العرض عن انتقاده وعدم تبنيه للأطروحتين معا، ويقدم بالمقابل موقفا جديدا هو عبارة عن تركيب بينهما أو يتجاوزهما معا. وبطبيعة الحال يجب عليه أن يعكس كل ذلك على مستوى الخلاصة النهائية.
إذن فما نريد التأكيد عليه هنا، هو أن الخلاصة تعكس بصدق وبكيفية تلقائية عما تم تبنيه وعرضه في لحظتي التحليل والمناقشة. ولذلك فمن الخطأ أن يظل التلميذ محايدا منذ بداية الموضوع إلى نهايته، ثم يأتي في الأخير ويعلن بشكل فجائي عن موقفه مشفوعا بحجج ومبررات. إن هذا غير مستساغ؛ إذ يفترض أن يبرز التلميذ ذاته في كل أجزاء الموضوع، منذ بدايته إلى نهائيته. فهو –أي التلميذ- مطالب مثلا بعد الانتهاء من تحليل النص أن يناقشه داخليا، وهذه المناقشة ولا شك هي تعبير عن موقف التلميذ من أفكار النص وأطروحته؛ فإذا كان مساندا لها فعليه أن يوضح مساندته أيضا للمواقف المدعمة لها، وإن لم يكن مساندا لها فعليه أن ينتقد مؤيديها ويساند معارضيها. وكل هذه العمليات يقوم بها التلميذ أثناء العرض، وهي تعكس ولا شك موقفه الشخصي الذي نضطلع عليه قبل الخلاصة النهائية، وتكون هذه الأخيرة مجرد تحصيل حاصل، إذ يتم توقعها مسبقا.
- السؤال المفتوح المشابه للإشكال الذي تمت معالجته؛ وهذا من الأخطاء التي
عثرت عليها أيضا في مواضيع التلاميذ، فيقوم هؤلاء بطرح سؤال مفتوح في الأخير هو نفسه الإشكال الذي تمت معالجته في الموضوع. وهذا غير مقبول إذ يجب أن يكون السؤال المفتوح مغايرا لذلك الذي تضمنه النص وتمت مناقشته من طرف الفلاسفة. لكن يكون بينهما رابط ما؛ إذ أن الخلاصات والنتائج التي تتضمنها الخلاصة النهائية، والتي تكون بصدد مناقشة إشكال النص، هي التي توحي في الحقيقة بطرح السؤال المفتوح في الأخير؛ فيكون معبرا عن نوع من النقد وتبيان حدود هذه الخلاصة النهائية نفسها، وصعوبة تبنيها بحذافيرها وقبولها من شتى الأوجه.
هذه إذن هي أهم الأخطاء التي تمكنت من تدوينها من خلال عمل استقرائي، انطلقت فيه من كتابات التلاميذ أنفسهم؛ فصححت مواضيعهم على مهل، ومنحتها العناية التي تستحق. كما قمت بمناقشة هذه الأخطاء مع تلاميذي داخل الفصل، في أفق الوعي بها وتجاوزها لاحقا، خصوصا وان الأمر يتعلق بالفرض المحروس الأول، إذ لا زالت هناك فروض أخرى يمكن خلالها تجاوز تلك الأخطاء.
إن هذا العمل الذي قمت به يندرج أولا في إطار تبادل التجارب الفصلية بين مدرسي الفلسفة، ويندرج ثانيا في إطار النقاش الدائر في المنتدى هذه الأيام حول شروط الكتابة الإنشائية الفلسفية.
وقد توخيت أن يكون حديثي عن الكتابة الإنشائية الفلسفية مستندا على عمل استقرائي انطلقت فيه مما هو حاصل في الواقع، بدل الاكتفاء بالتنظيرات الجوفاء التي قد لا تلامس مكمن الداء للبحث له عن الدواء.
وأملي أن يحقق مثل هذا العمل فائدة لدى التلاميذ من جهة، ويثري النقاش بين المدرسين حول الكتابة الإنشائية الفلسفية من جهة أخرى.