1 قوله تعالى: )وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ(. يقول الإمام الطبري في المدلول التربوي العام لهذه القصة: ((وهذا أيضا من الله تعريف لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم, قديم تمادي هؤلاء اليهود في الغي, وبعدهم عن الحق, وسوء اختيارهم لأنفسهم, وشدة خلافهم لأنبيائهم, وبطء إنابتهم إلى الرشاد. مع كثرة نعم الله عندهم, وتتابع أياديه وآلائه عليهم, مسليا بذلك نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عما يحل به من علاجهم, وينزل به من مقاساتهم في ذات الله. يقول الله له صلى الله عليه وسلم: لا تأس على ما أصابك منهم, فإنّ الذهاب عن الله, والبعد من الحق, وما فيه لهم الحظ في الدنيا والآخرة, من عاداتهم وعادات أسلافهم وأوائلهم, وتعزّ بما لاقى منهم أخوك موسى عليه السلام)).
(3) قوله تعالى: )يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ(. ذكر موسى عليه السلام لقومه وذكّرهم بنعم الله عليهم ثم طلب منهم مجاهدة عدوهم ودخول الأرض المقدسة, وهذا أسلوب تربوي لطيف, لأنّ النعمة توجب الشكر على المنعم عليه, وكلما كانت النعمة عظيمة كلما كان الشكر أشد وجوبا, ومن هنا فإنّ ذكر النعم قبل الطلب هو بمثابة التحريض على تنفيذ الطلب وتوطئة النفوس لتلقي هذا الطلب تلقيا إيجابيا. وقد ذكر من هذه النعم ثلاثا:
(أولها) قوله )إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ( وما من أمة بُعث فيها من الأنبياء كما بعث في بني إسرائيل فمنهم يعقوب وأولاده من الأنبياء, ومنهم موسى والسبعون المختارون للقاء الله, وفيهم النبوة باقية في ذرية اسحق دون إسماعيل.
(وثانيها) قوله )وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً( أي: يملكون نفوسهم وأهليهم وأموالهم ولهم خدم يخدمونهم, بعد أن كانوا مستعبدين لقوم فرعون فلا يملكون أنفسهم ولا أهلهم ولا مالهم وهم خدم لا خادم لهم، وهذه النعمة لا يحس بها الناس الآن ولذلك منهم يجحدونها, فقد أخرج مسلم في صحيحه ((أنّ رجلا سأل عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ فقال الرجل: نعم, فقال عبد الله:ألك منزل تسكنه؟ فقال الرجل: نعم، فقال عبد الله: فأنت من الأغنياء، فقال الرجل: فإنّ لي خادما, فقال عبد الله: فأنت من الملوك)) (مسلم).
(وثالثها) قوله )وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ( فخصهم بأنواع عظيمة من الإكرام كالتحرر من العبودية لفرعون وقومه, وفلق البحر, والمن والسلوى, وإخراج الماء من الحجر, وأظل فوقهم الغمام، وغير ذلك.
(4) قوله تعالى: )يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ(. معناه: ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله عليكم دخولها, فاستبدل عليكم بقوله (لكم) ولهذا مدلول تربوي, فإنّ عليكم تفيد الأمر وهو إنشاء قد يحصل وقد لا يحصل, أما (لكم) فتفيد الإخبار وهو من الله حاصل, وقد استخدم الإخبار مكان الإنشاء للتأكيد على الطلب حتى كأنه قد حصل. والمدلول الثاني هو البشارة لقوم موسى بدخول الأرض المقدسة, فإنه وإن كان فيها قوم جبارون ظاهرهم لا يغلبون, فهم دخلوها بوعد الله لهم. والمدلول الثالث أنّ الدخول وإن لم يحصل في ذلك الجيل من بني إسرائيل فإنه حصل للجيل الذي بعدهم ودخلوا الأرض المقدسة بوعد الله وبشراه لهم في دخولها.
(5) قوله تعالى: )وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ(. معناه )وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ( في الدنيا )فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ( في الآخرة, وهذا من قبيل التربية بالعقوبة الأخروية, لأنه تعالى هددهم وتوعدهم بالخسارة في الآخرة إن هم لم يدخلوا الأرض المقدسة ولم يقاتلوا القوم الجبارين فيها.
(6) قوله تعالى: )قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ(. في هذه الآية معادلة غريبة عجيبة, فالله تعالى يأمر بني إسرائيل بدخول الأرض المقدسة, و بنو إسرائيل يرفضون الدخول حتى يخرج القوم الجبارون منها, والقوم الجبارون لا يخرجون إلا بالقتال, و بنو إسرائيل يرفضون القتال. أقول: لعلهم ينتظرون أن يرسل الله ملائكة يقاتلون الجبارين ويخرجونهم من الأرض المقدسة وعندها يدخل بنو إسرائيل الأرض المقدسة. أليس هذا حال المسلمين الآن في مواجهة بني إسرائيل؟ وأقول: نعم, بعض المؤمنين يتساءلون: ألسنا على الحق؟ فنقول: نعم, فيقولون: أليس اليهود على باطل؟ فنقول: نعم, فيقولون: فلماذا هم غالبون علينا مغتصبون لأرضنا؟ فنقول: لأنكم لا تقاتلون حق القتال, أم أنكم تريدون من الله أن يرسل الملائكة لتحرير فلسطين؟!!
هنا مسألة تربوية هامة تتعلق بسنة الله في هذا الدين, فهو دين يقوم على الجهد البشري ولا يقوم على المعجزات والكرامات, فبقدر ما يبذل المسلمون من الجهد بقدر ما يحققون وجودهم ويحرزون نصرهم, وهذه سنة الله في هذا الدين وقد غفل عنها الكثير من المؤمنين, يقول الله تعالى: )وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ( (النساء:104)، فإذا تساوى المسلمون في القوة مع عدوهم كانت الغلبة لهم لأنهم لا يخافون الموت ويرجون من الله دخول الجنة بالشهادة, فهم يقاتلون كي يموتوا وعدوهم يقاتل كي يحيا, والعقيدة هنا عامل مهم في حسم المعركة إذا تساوت القوى المادية بينهم وبين عدوهم.
وشكرا.